برزخ مشروع ولد من وقتنا الحالي، ونحن جميعاً نشعر بتوقف الزمن من حولنا و بالمعني اللغوي للبرزخ الذي هو جزء أو مكان يكون حاجزاً ما بين مكانين ويربط بين بحرين أو أرضين، كصحراء وبستان، أو بالمعنى الشائع البرزخ هو: الحاجز بين الموت والبعث، حياة ما بين هاتين الحياتين

    أردت من خلال عملي واتجاهاتي البحثية، أن أخرج من النمط القصصي المثير والمبالغ فيه، والذي أصبح مألوفا وتعودنا عليه، خاصّة عندما نتحدث عن ما يسمي “بالعالم الثالث”! قصصي ستركز على الأشخاص الذين غامروا لكي يصلوا، والذين واجهوا وخرقوا هيكليات السلطات والقوات والأنظمة المصرة على أن تجعلهم ضحايا، وتسلبهم حقوقهم، ولكنهم أصروا وصرخوا وقاوموا من أجل حقهم في أن يعيشوا ويحلموا ويحبوا

    كانت هذه القصص تحوم في قلبي وتقلقني، خائفة من أن أفشل في مسؤوليتي أمام أحبابي -الذين ائتمنوني على قصصهم الشخصية. ولكني أدركت أن قلقي هذا قد منعني من أن ألبي نداء هذه الأمانة، و لأجل ذلك، هذه محاولة مني لطرح قصصهم التي تُعَلِمُنَا جمعيا كيف نعيش و كيف نأمل

    أول قصة سأرويها لكم ، هي قصة ذلك الأسبوع الذي قضيته مع صديقتي الحبيبة قمر ونحن ننتظر وصول والدها وسيم إلى مصر تهريبا عن طريق السودان. قصة العم وسيم تسلط الضوء على طرق الهجرة التي لا تنتهي والمتكررة، مع سرد كل ما يحدث بين هذه المراحل و هذا ما عنيته بالبرزخ

    كما أننا جميعا نعيش حياة قد علقت بالحَجْر، أود أن نضع في أذهاننا أن الحياة الغير مستقرة والمليئة بالتوتر، قد أصبحت النمط الطبيعي لحياة الكثير من هذه الشخصيات التي سأسرد قصصها، و ذلك بسبب الأنظمة الدولية و الرأسمالية الموجودة الآن. و أن هذه الأنظمة ليست مستدامة ويتم بناؤها على التسلسلات الهرمية التي تحدد من يستحق الحياة ومن لا يستحق – ولكن كما يكتب الشاعر محمود درويش

    على هذه الارض ما يستحق الحياة

    الخميس نوفمبر ٢

    بدأ وسيم الشيخ رحلته بركوب طائرة من فيينا، ووصل إلى الخرطوم في نفس الليلة

    •••

    في صيف ٢٠١٣، شهدت مصر تحولاً شاسعاً في النظام السياسي، و مع ذلك التحول تغيرت حالة السوريين في مصر، حيث أغلقت مصر بابها المفتوح و فرضت نظام الدخول بفيزا تأشيرة الدخول! ولم يكن هذا النظام مطلوباً في السابق، مما كان له أثر سيء على السوريين الذين تمنوا الذهاب إلى مصر، وكنتيجة لذلك اضطر كثير من السوريين أن يدخلوا مصر تهريبا عن طريق السودان، لكى لا يدفعوا رسوم الفيزا الغير شرعية في المطار الباهظة الثمن والتي تعادل ما فوق ال ٣٠٠٠ دولار للفرد

    وصادف في نفس توقيت التهريب عن طريق السودان، ما كان يحدث في سوريا من تهجير وبطش! وتتميز قصة وسيم أنه كان ممن أتوا من أوروبا، ثم دخل مصر تهريبا عن طريق السودان، بينما معظم الذين يخترقون هذا الطريق هم من الذين جاؤوا من سوريا هاربين من نظام الأسد وداعش

    وقد تجلت عواقب مثل هذه التحركات في دخول مصر إلى تصنيفها بأنها غير شرعية، وأدت إلى زيادة تأمين الحدود، الأمر الذي تسبب في زيادة عدد المحتجزين، خاصة الشباب الذكور والعازبين وترحيلهم في كثير من الأحيان

    ومن الواضح هنا أن ليس كل المهاجرين سواسية، فهناك عدة عوامل تؤثر في رحلة الهرب؛ عامل النوع، الطبقية والعرق…إلخ.

    الأحد، نوفمبر ٥

    في أحد أحياء القاهرة

    ١٠:١٥ مساء

    وصلتُ إلى دار عائلة الشيخ متأخرة، بسبب زحام القاهرة وأنا من طبيعتي أتأخر في معظم مواعيدي، وعندما وصلت، شعرت بجو مضطرب، جميع أفراد العائلة يتحركون من حولي لكي يستعدوا لوصول والدهم وسيم. في وسط ازدحام الحركة، وقفت سما لتسلم عليْ وتعتذر عن انشغالها عني لأنها منهمكة في إعداد الأكلات التي يحبها زوجها وسيم حين يأتي. “صار لو خمس سنين مأكل وجبة بيتيه، اي هو بيعرف يطبخ بس مو مثلي”

    هكذا همست وهي تعد التجهيزات، عرضت مساعدتي لها و لكنها رفضت وأجلستني في غرفة الجلوس مع أصغر بناتها، لميس

    جلسنا انا ولميس نتحدث عن أشياء عادية لكي يمر الوقت تحدثنا عن الجو، وزحام القاهرة، مسلسلات تركية، وسألتها عن خطيبها محمد. أول لقاء بيني وبين عائلة الشيخ كان منذ سنتين في حفلة خطوبة لميس، وكانت هذه الحفلة أول حفلة أحضرها جمعت بين العرقين السوري والمصري. سافر محمد بعدها للولايات المتحدة ووعدها أنه سوف يسعى للحصول على الإقامة هناك لكي يحضرها بعده، ولكنه عندما وصل لأرض الأحلام اكتشف أن هذا الأمر صعب جدا، ولكن ظلت لميس على أمل أنه سوف يحصل عليها في سنة أو أكثر قليلا

    لم أستطيع أن أقول لها عن توقعاتي بأن المدة أطول بكثير مما تتوقع، إنها من ثلاث إلى خمس سنوات على الأقل، فآثرت الصمت على أن أحطم لها آمالها

    جلسنا سوية نشاهد بطل الفيلم التركي، وهو يعبر الشارع تحت زخات المطر مع حبيبته التي قد تسبب في فقد بصرها في أول الفلم.

    الاثنين، نوفمبر ٦

    ١٢:٣٠ نصف اليل

    الآن وقد انتهوا من تجهيزات اليوم جلسنا سوياً نشرب الشاي و نأكل مأكولات آخر الليل الخفيفة.

    سما والعائلة بدأوا يروون لى أحداث اليوم، لقد وصل وسيم إلى مطار الخرطوم قبل بعض ايام، وذكر لسما أن المسؤول عن الجوازات في المطار سأله بخبث: “أمتى رايح مصر؟” وسيم تظاهر بأنه لا يفهم السؤال و أصر أنه يريد البقاء في السودان، ضحك المسؤول وقال “أنا أعرف وأنت تعرف أنك رايح على مصر، مفيش لزمة نلعب اللعبة دي”

    وسيم سأل “طب شو العمل” و الجواب كان “ادفعلي زي كل الناس مابتدفع”، فأعطى وسيم المسؤول ٢٠ يورو من تحت لتحت لكي يأخذ ختم الدخول.

    ‎عندما ترك المطار قابل امرأة تعمل مع المهربين أعطته كرت هاتف سوداني وأخذته بسيارتها إلى محطة الباص، لقد كان على وشك الوقوع في ورطة فبسبب تأخره في المطار كان سيفوت رحلته التالية ولا يلحق الباص الذاهب إلى بور سودان

    الاثنين، نوفمبر ٦

    ١٢:٤٥ نصف اليل

    وسيم استطاع أن يصل إلى الباص في الوقت المناسب، حيث بشرته السيدة التي قابلته بأنها قامت بالاتصال بسائق الباص، تطلب منه أن يتأخر قليلا لكي ينتظر وسيم.

    لقد حيرني تصرف هذه السيدة وسألت سما ما هي السلطة التي تعطي هذه السيدة المجال و لتتدخل بجدول الباص العام الحكومي؟ و قالت سما بأن وسيم “متوصي عليه من صاحبه اللي في النمسا… ساعدوه وضبط له كل شي”.

    سألتها أن توضح لي، لأني حسب ما سمعته وفهمته نقطة البداية في التهريب تبدأ من سورية! شرحت لي بأن توجد قبيلة اسمها ابو قمة، وهذه القبيلة لها أفرع في جميع الدول العربية، وصديق وسيم في النمسا، لؤي ينتمي للفرع السوري للقبيلة، وعندما عرف أن وسيم عزم السفر لأسرته في مصر، كتب لؤي على صفحة الفيس بوك الخاصة بأعضاء القبيلة وبعد عدة نقاشات على الصفحة استطاع أن يرتب أمور رحلة وسيم بالكامل؛ فالبدء بالمهرب السوداني، وبعدها المهرب المصري، ومحمد الرجل الذي سيقابل وسيم في أسوان، ليأخذه إلى القاهرة، و كل هؤلاء من نفس القبيلة! عندما رأت سما دهشتي ابتسمت، ساخرة أفكر بأنه على الرغم من محاولات رسامي الحدود بين الدول في أن يحبسوا ما هو فطري سلس؛ فقد فشلوا في غلق ما لا يمكن أن يغلق.

    عندما وصل وسيم لبور سودان، بعد ثماني ساعات، أخذت قوات الأمن منه جواز السفر، وأخبروه بأنه إذا أراد جوازه فعليه أن يذهب إلى مكتب الأمن، و عندما ذهب لمكتب الأمن سأل المسؤول مرة أخرى ماذا يريد؟ ولم يجبه بل أكتفى بأن فتح الدرج الذي بمكتبه وكان مليئاً بجوزات سفر سوريين وقال “كل الناس ديه ما دفعتش ورجعنا جوزاتهم على الخرطوم، وهُمَّ لازم يرجعوا للخرطوم عشان ياخذوها،والموضوع ده بياخذ أسابيع” بعد ذلك وسيم أعطاه ٢٠ يورو وأخذ جوازه ورجع الفندق لينتظر المكالمة التي تعرفه متي تبدأ المرحلة التالية من الرحلة.

    الاثنين، نوفمبر ٦

    ٩ صبحاً

    رقدت العائلة متأخرة بعد أن سهرت وهي تنتظر أخباراً من وسيم، أنا استيقظت مبكرةً، وقضيت نهاري في الشرفة التي تطل على منظر المدينة من الأعلى، و جلست أرى أهالي الحارة وهم ويستيقظون ليبدؤوا يومهم

    و لقد لفت نظري كيف استطاع السوريون في الشتات أن يصنعون دمشق صغرى في هذا الجزء من القاهرة! و كيف يحتويك الجو الشامي عندما تصل إلى وسط المدينة

    وعندما هدأت طقوس بداية النهار، واستطاع أطفال الحارة اللحاق بمراكز التعليم السورية، رأيت أمهاتهم يتقابلن مع بعض للتمشية، ومن فوقي اسمع طائرات الجيش، وسما تتجول والنشيد الوطني المصري يهتف من المدارس الحكومية تحوم حولي. وبينما أنا أراقب الساحة رأيت أن معي مستمعة صغيرة تتأمل الشارع والنشيد، ونحن الاثنتان مستندتان إلى أقرب شيء: سما على شجرة تستمتع بظلها وأنا على سور الشرفة أستمتع بالمنظر

    كنت أنوي أن أقضي النهار في محاولة تخمين ودراسة ما قد يحدث في رحلة وسيم وأحلل توقعاتي عن الرحلة، توقعات بنيتها من كل القصص التي سمعتها من الذين اخترقوا الطريق ولكن رغم مخططاتي قضيت اليوم بين الزرع الكثير في الشرفة واللعب مع القط مشمش! أضع أمامه شيئا مغرياً له، وقبل أن يصل له في آخر لحظة أرفعه وأبعده عنه، مما يلزم مشمش إعادة تفكير باستراتيجية جديدة لكي يحصل على ما يريد

    الاثنين، نوفمبر ٦

    ١٢ ظهراً

    العائلة بدأت تستيقظ فرداً بعد الآخر، وفي هذه الفترة جاء اتصال لسما من وسيم، يخبرها أنه ومنذ بضعة أيام جالس في نفس الفندق في بور سودان ينتظر الإشارة لبدء الرحلة! ولقد بدأ يتوتر ويشعر بالضجر وبدأ أولاده يحدثونه ويطمئنون عليه، ويخبرونه عن البرامج و الرحلات التي يخططون لها عندما يصل مصر بالسلامة

    لميس ذهبت إلى جامعتها، وجلست أنا و بقية الأسرة نشاهد التلفاز وننتظر ما يحمله اليوم، وفجأة سمعتُ ضحكة مليئة بالسخرية من سما! نظرت إلى الشاشة، و إذا بمؤتمر الشباب الذي نظمته الحكومة المصرية تحت مظلة “عايزيننتكلم” قاصدة بها نقاشات عن الدول العربية والتنمية المستدامة والبطالة، مع لفت النظر إلى آثار الهجرة الغير شرعية في المنطقة

    سما وهي تشاهد البرنامج، قالت، وهي تأخذ نفساً عميقاً “وسيم قدم على فيزةمصر ١٤ مرة- ١٤ مرة”

    الأثنين، نوفمبر ٦

    الساعة ٥:٥٢ مساءً

    العائلة بدأت تستيقظ فرداً بعد الآخر، وفي هذه الفترة جاء اتصال لسما من وسيم، يخبرها أنه ومنذ بضعة أيام جالس في نفس الفندق في بور سودان ينتظر الإشارة لبدء الرحلة! ولقد بدأ يتوتر ويشعر بالضجر وبدأ أولاده يحدثونه ويطمئنون عليه، ويخبرونه عن البرامج و الرحلات التي يخططون لها عندما يصل مصر بالسلامة

    لميس ذهبت إلى جامعتها، وجلست أنا و بقية الأسرة نشاهد التلفاز وننتظر ما يحمله اليوم، وفجأة سمعتُ ضحكة مليئة بالسخرية من سما! نظرت إلى الشاشة، و إذا بمؤتمر الشباب الذي نظمته الحكومة المصرية تحت مظلة “عايزيننتكلم” قاصدة بها نقاشات عن الدول العربية والتنمية المستدامة والبطالة، مع لفت النظر إلى آثار الهجرة الغير شرعية في المنطقة

    سما وهي تشاهد البرنامج، قالت، وهي تأخذ نفساً عميقاً “وسيم قدم على فيزةمصر ١٤ مرة- ١٤ مرة

    الاثنين، نوفمبر ٦

    ١١:٢٠ مساءً

    <<ساعة منذ بدء الرحلة>>

    وسيم اتصل بسما، و أخبرها بأن الرحلة قد بدأت، وقال لها بأن هناك ١٢ شخصًا مكدسين “مثل السردين” في الجزء الخلفي من شاحنة بيك اب التي يبلغ طولها مترا في متر وهو جالس على جانب الشاحنة، معظم من كان في الشاحنة أطفال ونساء وجميعهم سوريون

    ولقد أعلمه المهرب أن الرحلة سوف تستغرق ١٨ ساعة ويصل بعدها إلى أسوان ثاني يوم، هو قلق و لكن الشعور بأنه قريبا سوف ينتهي كل هذا يجعله يهوّن على نفسه صعوبة الوضع

    الثلاثاء، نوفمبر ٦

    ٤ صبحاً

    << ٤ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    الجميع نائم في البيت، ما عدا أنا وسما، سما تدخن ومع كل نفس تأخذه كنت أشعر بالقلق الذي بداخلها، وفي ظلام الليل بعد نوم أبناءها يسقط القناع الذي كانت ترتديه أمامهم لكي يشعروا بالهدوء والاطمئنان

    وأثناء تسامرها معي أخبرتني بالتفاصيل التي حدثت مع قبيلة أبو قمة، وأفضت لي بأنها تشك في نياتهم التي تبدو حسنة، لأن لؤي حاول أن يجمع بين ابنتها قمر مع عريس من قبيلة أبو قمة المصرية، الشاب كان يود أن يتزوج من بنت سورية، وقمر كانت اسم على مسمى، و لكن قمر رفضت، ووسيم قرر أنه سوف يعطل الموضوع إلى أن تنتهي رحلته ويصل إلى مصر

    ‎سما أيضا قالت بأنهم عرضوا على وسيم الإشراف على مطعم بالصعيد المصري يعطى له بدون ثمن فقط عليه أن يشغله، ولكنها قلقة و صرحت “الناس ما بيعطوا٩ الا وهم ضامنين١٠ فما بعرف ليش هيك بعملوا”

    و هنا استسلمت لغموض الموقف، و قالت إنها ستنتظر وصول زوجها سالماً، لكي تفسر الوضع و تحلله معه

    الثلاثاء نوفمبر٧

    ٢:٣٠ عصراً

    << ١٥ ساعة منذ بدء الرحلة >>

    حتي الآن لا توجد أخبار عن وسيم، و أي محاولة اتصال به تفشل، الصلة الوحيدة له هو، محمد. و محمّد بالتالي حلقة الوصل بينهم وبين المهربين، و هو الذي يكتب لسما عبر تطبيقات التواصل الاجتماعية و يتصل على باسل، ابنها الذي يبلغ من العمر ١٧ عاما، محمد يطمئنهم بأن الأمور تمشي حسب ما يريدون، وأنه على اتصال دائم مع المهربين

    الهدوء من جهة وسيم بدأ يقلقهم، ولكي يطمئنوا إلى أن الأمور مازالت تحت السيطرة عزموا على التخطيط لمرحلة ما بعد وصول وسيم إلى أراضي مصر، فطلبوا مني الاتصال بسكة حديد مصر، لكي نعرف مواقيت وصول القطارات من أسوان (مدينه في جنوب مصر قريبة من السودان) إلى مصر، وبعد متابعتنا للجداول، قدرنا أنه سيصل في قطار الساعة السادسة، و إذا لم يلحق به؛ فبالتأكيد في قطار ٨:١٥

    حتى بعد هذه التقديرات، لم يهدأ بال سما؛ فطلبت من قمر أن تتصل بيوسف، المحامي المصري الذي بجانب المحامي السوري سامي، و كلاهما معروف بالتوسط لمساعدة السورين الذين يأتون عن طريق السودان، يوسف طمأن قمر بعد ما شرحت له الوضع، و قال لها حتى إذا مسكته القوات المصرية عند الحدود سيفرجون عنه، فقط يجب على العائلة ان تحضر صور زواجها بوسيم، و دفتر العائلة

    الثلاثاء نوفمبر ٧

    ٥:٣٠ عصراً

    << ١٨ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    رجعت من شراء بعض طعام العشاء، وبمناسبة رجوع وسيم سوف أطبخ لهم أكل هندي، وأنا أضع الأكياس في المطبخ سما أخبرتني بأن وصول وسيم قد تأجل للساعة الثانية صباحاً، ذلك أن المهربين يأخذون استراحة قبل الحدود لكي يبدلوا السائقين من مهرب سوداني إلى مهرب مصري

    و أنا أفرغ المشتريات في المطبخ، سمعت صديقة سما صفاء وهي تتعجب من الرحلة، حيث قالت: وسيم كان عنده خمس ساعات انتظار في القاهرة، بعد رحلة استغرقت ثلاث ساعات من فيينا، ولكي يرجع إلى القاهرة استغرقت رحلته أسبوعاً كاملاً

    نظام الحدود غريبٌ، أليس كذلك؟

    الثلاثاء نوفمبر ٧

    ١١ مساءً

    << ٢٤ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    جميع من في البيت كان يستعد لاستقبال وسيم، قصي صديق مشترك ومقرب للعائلة، كان يساعدنا في التنظيف، وكنا نفك الثريا و نلمعها، والبنات كنَّ ينظمن غرف النوم، و نحن في وسط هذا الانشغال، سما نادتني لأقرأ رسائل من محمد وطلبت مني أن أتحدث معه لأنها متوترة، ولا تريد أن تُعْلِمَ أبناءها

    سألتُ محمداً أن يفسر لي الصمت وسبب تأخير الرحلة؛ فأجاب بأن هذا الوضع طبيعي! ثم قال بأنه كان هناك حادث سيارة في الطريق، ولكن لم يدخل في التفاصيل ولم يقل أي شيء مفيد، وكان الحديث معه غريباً، لأنه كان ينهي كل جملة بالتشييد بالعروبة التي تربطنا، ويقدس بالشعب السوري على أنهم حماة العروبة، وفي وسط هذا التطبيل ، طلبت مني سما ألَا أخبر أحداً في البيت لأنهم متوترون

    وقررنا ان نستسلم للمجهول آملين بفرج يأتي مع الوقت، رغم شعورنا بتجمّده في الوقت الراهن

    الاربعاء نوفمبر ٨

    ٧ صبحاً

    << ٣٢ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    نومي خفيف، في انتظار أخبار جديدة في أي لحظة، قمر دخلت الغرفة المشتركة بيننا، إنها لم تنم نهائيا من قلقها، والدها لا يرد على الاتصالات، والرحلة لم تصل أسوان إلى الآن! تأخرت الرحلة عشر ساعات عما هو متوقع

    رقدت قمر على الفراش المقابل لفراشي، وجلست تنظر إليَّ بهدوء، وشعرت بحدسي أنها تنتظر مني أن أمنحها بضع كلمات تسمعها، و تتمسك بها لكي تهدئ بالها ولكن كل ما كان بوسعي فعله، هو دعاء عفوي بسيط مما قد حفظناه في صغرنا مع تنهيد خفيف، والاستسلام لأمره تعالى. ولكني لا أخفي أني شعرت بتلبك في معدتي من شدّة التوتر

    الاربعاء نوفمبر ٨

    ٨:٢١ صبحاً

    << ٣٣ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    سما دخلت الغرفة لتخبرنا أن وسيم قد وصل لأسوان، وأنه سيقابل محمداً في محطة القطار بعد عشر دقائق، حاولت سما أن تتصل بوسيم، لكن لا يوجد شبكة، انتظرت قليلا ثم اتصلت مرة أخرى، لتنجح بسماع صوته والتحدث معه قليلا، حيث أخبرها بأنه سوف يأخذ قطار الساعة الثالثة عصرا، وسيصل إلى القاهرة الساعة الخامسة فجراً، ذلك إن لم يوقفه أحد من ضباط الأمن المصريين

    الأربعاء نوفمبر ٨

    ١ ظهرًا

    << ٣٨ساعة منذ بدء الرحلة>>

    جميعنا استيقظنا متأخريينبعد ليلة مليئة بالقلق والتوتر، سما تحدثت مع وسيم الذي أخبرها بأنه قابل محمداً، وأخذه إلى بيت استراحة أحد أفراد عائلة أبو القمة ليرتاح ويغتسل بعد الرحلة الشاقة، ولكي يستعد قبل الرحلة الطويلة الذي تنتظره للذهاب إلى القاهرة

    عندما سئل على سبب التأخير، شرح وسيم تفاصيل الحادثة: كان أمامهم شاحنة بيك أب مهربين أيضا، وكانت القوات تطاردهم حتى انقلبت الشاحنة و توفي جميع من كان عليها، يخمن وسيم بأنهم كانوا اثني عشر قتيلا من السوريين ومهرباً واحداً

    جلست بعدها أتابع صفحات السوريين في الفيس بوك لكي أتأكد من الخبر، ففي بعض الأحيان الأهالي المنتظرين يحاولون الوصول إلى حالة أبنائهم من خلال الاستفسارات عن المفقودين، وفي بعض الأوقات يرد عليهم أفراد من القوات المصرية من خلال المحامين السوريين المتواجدين على الصفحات لكي يخبروا أو ليطمئنوا الأهالي، ولكن في بحثي عن هذه الحادثة، لم أجد شيئاً

    الاربعاء نوفمبر ٨

    ٧ مساء

    <<٤٤ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    في تجولنا حول ميدان الحصري لنشتري بعض الأغراض التي يحتاجها المنزل قبل قدوم وسيم، تحدثنا فايز (صديق مشترك قديم) وقمر وأنا عن غرابة الموقف الذي ستمر به العائلة، وهي تلتقي وسيم بعد خمس سنوات من الغياب، و قد غيّرت فيهم هذه السنوات الخمس ما غيّرت! وساور قمر القلق وهي تفكر في هذه التغييرات وآثارها على الجميع، خاصة بعد انتهاء هيبة اللقاء وعودة الحياة إلى مجراها الطبيعي

    في وسط ازدحام ممر الأمريكية المليء بالمحلات السورية للأكل ومكاتب التجارة والملابس على اليمين واليسار، وقفنا تحت إعلان وضعه أكبر مطعم سوري في الممر بعد أحداث ٢٠١٣، بعد التنمر على اللاجئين عامة والسوريين خاصة، وكان قد كُتِبَ على اللوحة عبارات شكر للشعب المصري على ضيافتهم، مذكّراً بالإخوة المشتركة بين الشعبين

    رجعنا إلى البيت بعد أن اشترينا الذرة والمقبلات لمن سيأتي إلى البيت احتفالا بقدوم وسيم

    الأربعاء نوفمبر ٨

    الساعة ١١ مساء

    << ٤٨ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    الأجواء في البيت سعيدة، حيث كان وسيم في طريقه إلى القاهرة، وكانت الأغاني العراقية تملأ البيت ونحن ننفخ في البالونات ونزين البيت، ورسمَتْ قمر ولميس لوحة ترحب بوالدهما وجميعنا كتبنا عليها عن مدى سعادتنا لقدومه، سما كانت جالسة تراقب الموقف بسعادة ونحن عزمنا أننا سنسهر طوال الليل حتى يأتي وسيم*

    *أنا ربما نمت خمس مرات بعد ما عزمت السهر… دار آل الشيخ سهيره

    الخميس نوفمبر ٩

    ٤ فجراً

    <<٥٣ ساعةمنذ بدء الرحلة>>

    فايز، باسل وزوج صفاء ذهبوا ليقابلوا وسيم في محطة القطار, أنا انتهزت هذه الفرصة لآخذ قيلولة بسيطة قبل ان يرجعوا

    الخميس نوفمبر ٩

    ٦ صبحاً

    << ٥٥ ساعة منذ بدء الرحلة>>

    وسيم وصل، و بناته ينتظرنه على الدرج، و كلما بان رأسه و هو يصعد تسمع الفرح في ضحكاتهن! سما تنتظره داخل الشقة و يفيق الهدوء المتوتر من طاقتها، و عند باب الشقة وسيم يتسرع في اخر الدرج وعندما أخذ لميس في حضنه شعر الجميع براحة

    اخيرا قد وصل، اخيرا وصل سالماً، خلفه محمد يدخل بابتسامة خجولة منتظراً الدخول، جلسنا جميعنا حول المائدة التي جهزتها سما مليئة بالأكلات المتنوعة التي باتت تحضرها منذ أيام

    باسل يقول ممازحا بعجب إنه صار أطول من أبيه لدرجة أن وسيم تفاجأ عندما رآه في المحطة، حيث كان باسل في سن ما قبل المراهقة في آخر لقاء بينهم

    محمد عرف عن نفسه، و قال إنه ساعد في تخطيط رحلة وسيم كمعرف للؤي، الصدق الذي في فينا الذي يعتبره محمد أحد أقاربه، و لكن سما لا تثق في محمد! و حاول محمد أن يربط ويفسر فعله لكل هذا بإيمانه بالعروبة و بوحدة العرب، و خاصة أنه ضد إغلاق الحدود في وجوه السورين، و قال إنه ذهب من أسيوط لأسوان لكي يساعد وسيم، بشكل خاص، بسبب هذا الفكر، و لكن حتى الآن سما لم تقتنع و سالت، “كل هاد عملته بدون مقابل؟” و محمد يحلف أنه قد فعل

    كان الشعور بالتوتر حول هذا الحديث ملموساً؛ و لكي نغير الموضوع سأل أحد الجالسين وسيم عن رحلته، و ليرد الأخير “صعبة، جدا صعبة”

    الخميس نوفمبر ٩

    ٦ صبحاً

    كان وسيم جالساً إلى أول الطاولة، والجميع حوله مستمع. إلا أن وسيم يبدو و قد سرح بعيدا في أفكاره، و فجأة أخذ نفساً عميقاً ليروي لنا ما مر به بسرعة، وقد بدا وهو يروي لنا القصة كمن ينفس عن الضغط الذي بداخله علّه يرتاح

    كلنا كنا متل ‘علبة السردين’، لا مكان يتسع حتى لأقدامنا، وأنا كنت جالساً في مكان ضيق، لأن كانت السيارة مليانةأطفال وحريم، بالغلط خبطت في وحدة قاعدة قريب مني و كان أسلوبها معي سيء جدا فسألتها شايفةاحنا قاعدين وين، ما في مكان اصلاً، ماكنت بقدر أسال على مكان أكثر لإنو الأولوية أكيد لباقي الركاب، أنا رجل فيني أستحمل بس كنت زعلان على الأولاد

    الصبح الشمس كانت كتير قاسية والجو شوب شوب والسواقين رايحينبسرعة جنونية، كاسرين العداد منشانيروحوا فوق ال ٢٢٠ كيلو لأن السيارات حدها ٢٢٠ فلازم العداد ينكسر عشان السيارة تمشي بسرعة ومنشانما نغرز في الصحراء ونتعطل

    “أنا كنت ماسك بنت صغيرة من حلب تقريبا جايةمع أهلها مشان مايصرلها شيء، وكل واحد من أهلها شايلولد وكنت قلقان عليها طول الوقت، وضليناهيك أكمن ساعة قبل ما اخذنا استراحة بسيطة وكملنا رحلتنا و حنا في وسط الجبال عدينا على شجرة كانت ترمز لدخولنا حدود مصر.. بس كانت هيك، شجرة ولا شفت حدود ولا غيره كانت مجرد شجرة

    تنهد وسيم وأكمل

    واصلنا رحلتنا لين ما حصلت الحادثة قدامنا، قلق السواق فدخل في الصحراء بعيد عن الحادثة ورمانا في الصحراء وترك ماي واختفي ٨ ساعات، كنا مرعوبين، خصوصا مشان الأولاد لأنهم حكولنا ندير بالنا أن في عقارب السودا، فصار كل صوت نسمعه نتخيله عقرب أسود

    على الساعة ١٠، اجا سواق تاني وغصبنا عليه أنو يضل معنا لين ما يجي التاني يأخذنا، لما أجا التاني ودخلنا الشاحنة وكملنا الرحلة، هالمرة السواق كان مصري و كان أطيب من إلي قبله و أهدأ في سواقته، بس هاد لإنو لازم يكون هيك، ما كان بدو يجذب انتباه قوات الجيش إلي بيعملوا دوريات دائما فأخذت هذه المرحلة وقت كثير طويل بس بالآخر وصلنا لحدود المدينة ونزلنا المهرب وتركنا ومشي

    في محطة القطار كلمت محمد، وسألته عن مكانه لإنو ماكنت شايف حدا، وحزرنا أنو المهرب نزلنا على أدفو مو أسوان فكنت لازم آخذ قطار منشان ياخذني لأسوان، وأنا واقف بستنا القطار مع العائلة إلي كانوا معى بالطريق عدى شرطي من حدنا، وأنا على طول عملت حالي مشغول مع البنت وقلت لها لا تقولي شي بس كان عيني عليه، أكيد كان عارف كان كثير باين علينا، بس الحمد الله قطار أدفو لأسوان كان سريع ولما وصلت أخذني محمد عند قرابينه، و كانوا طيبين تحممت وارتحت شوي لين أجا وقت قطار القاهرة، ولما صعدت كنت قلقان انو رح يوقفوني بس محمد كان مضبط كل شي مع أصحابه الي بالشرطة و عدينا، و الله سترها الحمد الله

    الخميس نوفمبر ٩

    ٨ صباحاً

    بعدما انتهينا من الأكل، أنا و فايز عزمنا الذهاب إلى منازلنا، رغم إصرار العائلة بأن نبقى لوقت أطول، ولكننا أدركنا هيبة الموقف، كانت لدى العائلة الكثير من الذكريات، والكثير الكثير من الحوارات والنقاشات التي احتشدت في القلوب و العقول على مدى خمس سنوات

    وأنا في الأوبر ( سيارة الأجرة)، أحاول ألّا أنام، أخذت أفكر في الشجرة التي ترمز إلى الحدود بين مصر والسودان. مجرد شجرة تقسم بلدين! شجرة ربما هي موجودة منذ مئات السنين، شجرة بهذا الحجم يعني أن جذورها منتشرة وتلمس جميع الأطراف ولكن بالنسبة للشجرة؛ فجذورها تنتمي لها وحدها. وفي النِّهاية، هي مجرد شجرة

    وضعت رأسي على نافذة السيارة، و نحن نعبر الجسر فوق النيل مستسلمة لتعبي ورغبتي في النوم

    بعد ستة اشهر

    وسيم ينتظر أخبار الإقامة في مصر، يبدو قلقاً من مجرّد فكرة الخروج من البيت لساعات طويلة، حيث يشعر بأنه معلق غير مستقر! لا يستطيع أن يقدم أوراقه لمفوضية الأمم المتحدة، بسبب الإقامة من النمسا كانت بحوزته، و إن فعل؛ فهذا معناه أنه سوف يخسر قناة عبوره إلى أوروبا، وهذه القناه مهمة بالنسبة لوسيم. تحدث وسيم مع عدة محامين ممن أعطوه أسعاراً غالية بشكل خيالي، أو مخفضة بشكل غير مريح؛ فالمعيار كان مابين

    “هذه الأرقام تبدو غير حقيقية” و ” وبالمقارنة مع هذا الرقم الخيالي كان أحسن لي لو دفعت المصاري في مطار مصر من الأساس

    كل الذي يحتاجه وسيم في هذا الوقت، الختم المثلث الذي سيجعل وجوده في مصر قانونيا، بحيث يعطيه حريّة التحرك فيها كما يريد، بعد عدة أشهر من الإقامة في أمَّ الدنيا! هذا الوضع الغير مستقر، جعل وسيم يفكر فعليا بالرجوع إلي النمسا عن طريق السودان

    يوليو

    نفدَ صبر وسيم ، بعد شهور من الانتظار لحل مشاكل الإقامة في مصر، حيث باءت كل محاولاته بالفشل و لم تنجح، ووسيم ليس من ذاك النوع الذي لا يحب الجلوس في البيت، لتكون حركته، بالتالي شبه مشلولة ومتوترة تخشى من السلطات والاقتحامات الأمنية التي تطالب بالإقامات. وكان توتره هذا يزداد في كل مرة يفكر فيها بالرجوع إلى النمسا عن طريق السودان. هو لا يريد أن يرجع ليتجرّع وحدة الغربة و البعد عن أهله؛ فقرر أنه سيفعل كل ما بوسعه لكي يبقى معهم

    فجأة، و بعد مكالمة سريعة حدد الموعد

    و في أحد الأيام – يوم الثلاثاء تحديدا- اتجه وسيم إلى موعده وهناك في المفوضية، سجل نفسه، ومع ذلك القرار خسر إقامته في النمسا، وأصبح مرة أخرى طالبا اللجوء، ولكن هذه المرة في مصر، حيث لديه أبسط الحمايات و أقل الفرص في إعادة التوطين

    الدائرة لا تنتهي

    في بداية الرحلة أخذ وسيم٤ ساعات تقريباً ليصل إلي القاهرة من النمسا بالطائرة, ولكي يرجع إلى القاهرة استغرقت رحلته أسبوعاً كاملاً

    (يوم من الايام ما قبل الحرب (٢٠١١

    وسيم يستعد للذهاب إلى عمله، يجب أن تكون ملابسه طبق المعاير المفروضة في عمله, إنه يحب عمله كثيرا لأنه يتيح له فرصاً كثيرة ليتعلم أشياء جديدة

    يخرج للعمل ويصعد للطائرة، ويتساءل مع نفسه إذا كان عنده وقت كافٍ ليكتشف المدينة التي سيذهب لها قبل أن يحين موعد عمله مرة أخرى, كمضيف طائرة للطيران السوري العالم كله في يده، ويستطيع أن يرى هذا العالم خارج النافذة التي لا يري منها الشخص الحدود المرسومة بل يرى الحياة، المتداخلة في تناغم مع بعضها لتشكل تقاطع الدنيا والحياة